دخلت مدرسة أرقو الأولية وكان دخولها ليس بالسهل، لأن المقاعد محدودة وعدد
المتقدمين كثير!! إذ كانت هنالك لجنة من كبار أهل البلد ومفتش التعليم للمديرية
الشمالية. ولابد من طرح بعض الأسئلة البسيطة للطالب المتقدم وتحديد مدي أهليته
لمواصلة التعليم!وكان نظام التعليم رائع بمعني الكلمة!!ففي سنة أولي، كنا ندرس
الحساب والعربي والدين! الحصة الأولي حساب والثانية عربي والثالثة دين!! ولا أدري
لماذا تم إلغاء هذا النظام ؟؟أما في السنة الثانية، فزيادة علي الدروس الثلاث
المذكورة، ندرس الطبيعة والجغرافيا. والطبيعة تحتوي علي كتاب يسمي المدونة
الطبيعية. وفي هذه المدونة علينا تسجيل درجات الحرارة اليومية وإتجاهات الرياح
الموسمية وأنواع الخضروات والفواكه المتوفرة في الأسواق وأنواع الحيوانات التي
نشاهدها. إذن نظام التعليم يحتوي علي مواد عملية يقوم بها ويشاهدها الطالب في
الحياة العامة!! أما كتاب الجغرافيا فيحتوي علي شخصيات حقيقية من كل أنحاء السودان
مثل صديق عبد الرحيم من القولد وود القرشي من ريرة(أرض البطانة) و....و... وتقول
القصيدة في ذلك الكتاب البديع:
في القولد إلتقيت بالصديق
أنعم به من فاضل صديق
كم أكلت معه الكبيده (العصيده )
وغنيت"أوري وا ألودة"
ومنقو من جنوب السودان! وتستمر القصيدة:
منقو
قل"لا عاش من يفصلنا"
ولكن ما يبدو في حقيقة الأمر الآن إنه "قد جاء من يفصلنا!!!!!"
وتمر الأيام والسنون كمر السحاب!!! وأتعين إستاذا في جامعة الخرطوم وأدرّس
يوسف إبن صديق عبد الرحيم !!!كما درست أيضا في جامعة جوبا لمدة سنتين منتدبا من
جامعة الخرطوم وربما أكون قد درست إبن منقو!! والله أعلم!! فالكل هناك حلوين: منقو
ومنقه!!!
إذن المواد العلمية كانت حقيقة ملموسة يعيشها الطالب بعقله ووجدانه وتتسمر
في ذاكرته وأم رأسه مهما طالت علينا العقود وتكاثرت الثلوج علي رؤوسنا، فلن ننسي
تلك الأيام الغضّة !!!! ولن ننسي تلك القصص الساحرة التي خلبت مهجتنا وكياننا !!!
ولن ننسي ذلك الرعيل الأول من أساتذتنا الإجلاء أمثال الأستاذ عكاشة علوب والأستاذ
أحمد المصطفي و....و...!!!
ومع الدراسة الأكاديمية، كانت هنالك الجمعيات العلمية المختلفة. وكان لزاما
علي كل طالب أن يسجل في جمعية واحدة علي الأقل. ولا أدري هل من حسن حظي أو سوؤه في
أن أسجل في جمعية تربية الدواجن!!ربما أكون قد تأثرت بأمي التي كانت تربي الحمام
والدجاج بمنزلنا بأرقو! فكل إناء بما فيه ينضح !!
فلقد بنينا قفص كبير خلف فصل سنة رابعة علي تل من الرمال(وتلك الهفوة
الكبري) بقرب الحائط الجنوبي من المدرسة! وكان علي كل منا إحضار كتكوت(صوص) أو بربرة(صوصه-دجاجة صغيرة).
وعلينا أن نشمل هذه المخلوقات الصغيرة بالرعاية والسقاية يوميا . وكنا نشاهدها بأم
أعيننا البريئة وهي تكبر وتترعرع! إلي أن جاءت الطامة الكبري!!!
ففي إحدي الليالي المقمرة، تسلل البعشوم(الثعلب-يا أبناء المغتربين) من
المزارع المجاورة عند النيل وإستطاع أن يحفر الرمل تحت سياج القفص للدخول إلي
فلذات اكبادنا!! فكانت معركة الفلوجة بالقوي الغير متكافئة والتي لم يسلم منها
أحد!!! هذه الحادثة كانت التجربة الأولي
التي دكت حصون حصافتي وأنا يافع القوي!! فلقد تعلمت منها أبدجيات مهنتي العلمية: إنه
ليس المهم هو إنجاز العمل أو النجاح فيه، بل المحافظة علي هذا النجاح او الإنجاز
هو سر التفوق والإبداع!!!!
وهنالك حادثة أخري، ظلت في مخيلتي وترسبت في دواخلي منذ ذلك الوقت . كنت لا
أود أن أتحدث عنها. ولكن لا مانع في أشارك فيها أبنائي من جيل هذا الزمان!! كنت
اول دفعتي في السنة الرابعة اولية في الإمتحان النهائي. وكان إن جاء ضيف علي
المدرسة مع الأستاذ أحمد المصطفي وهو الأستاذ عبد الحفيظ باشري من أبناء وادي
حاج وكان وقتها طالبا في جامعة الخرطوم!
وكافأني الأخ عبد الحفيظ بمبلغ عشرة قروش(ريال كامل وكان وقتها مبلغ!!) !!! وعبد
الحفيظ كان مدير شركة شل بالخرطوم قبل أن يتقاعد الآن كما علمت!! إذن هنالك دائما
من يقدر تفوقك ونجاحك وما علينا إلا أن نبذل الجهد ونواصل التميز!! فهذا المجهود
لابد من أن يقدر سابقا أو لاحقا!!! زكنا نذاكر دروسنا علي ضوء اللمبة أو الفانوس
وجاز بقرش يكفيك لمدة إسبوع كامل!! كنا نقرأ أمهات الكتب في التفاسير والحديث
والشعر والأدب رغم صغر سننا!!!
جاءت إمتحانات الأولية للدخول إلي المدرسة الوسطي وكانت تقام في مدرسة
البرقيق الوسطي لكل المدارس من السليم إلي دلقو! ويتنافس فيها حوالي السبعمائة
طالب لإختيار 40 طالب لمدرسة أرقو و40 لمدرسة البرقيق الوسطي ولاحقا 40 اخري لمعهد
غريب الديني. وكنا ندفع مبلغ خمسة قروش لزوم اللورى الذي يحملنا إلي البرقيق ونحمل
معنا فطورنا وهو بيضتين مسلوقتين مع شوية شمار في صرة صغيرة مع ربع رغيف أرقاوي!!
والتحلية شوية تمر جاوه في الصرة بتاعت الشمار!!! نعم كان هذا هو فطورنا! لم يكن
هنالك كورن فيلكس أو شوكولاتا أو همبيرقر والمحظوظ او أولاد الذوات في ذلك الزمان ربما يكون عندهم
سندوتش فول وشوية كعك!!وكلنا في نهاية المطاف نأكل مع بعض، لا فرق بين هذا
وذلك!!!ونتقاسم ما لدينا بكل رضاء وسرور والحمد لله كثيرا لتلك النعمة!!!وكان اول
الناجحين لمقابلة اللجنة هو عبد الحليم عابدون من مدرسة مشو الأولية وأنا والفاضل
طه الملك مشتركين في الثاني !! ما زلت أذكر هذه الأسماء وتلك الأيام رغم مرور ما
يقارب الخمسين عاما !!!نه كانأ
تميزت أيام الدراسة بمدرسة أرقو الوسطي، بالإهتمام بالأدب والمسرحيات
والكتابة للجمعية الأدبية مع أساتذة إجلاء أمثال عبد الرحيم عبد القادر مدرس اللغة
العربية وخريج كلية دار العلوم
بمصر!!!وعبد الغني قناوي مدرس الجغرافيا وحسان حسن عمار مدرس اللغة الإنجليزية
والأستاذ عز الدين السيد من بدين والناظر حامد محمود محمد صالح من دنقلا و...و....!
هنا أبديت جنوحا وإهتماما لكتابة الشعر والمقالات رغم توجهي العلمي وتفوقي في الرياضيات!! أظهرت ميلا شديدا للمحاولات
الشعرية والكتابة الأدبية ووجدت تشجيعا منقطع النظير من أستاذ عبدالرحيم!! وأشبعت
نهمي للقراءة من مكتبة المدرسة المتواضعة! ولكنها كانت تحمل بعض كنوز المعرفة
والعلم!!
وكان في يوم الآباء بالمدرسة، تجري المنافسات الرياضية بين الطلاب والآباء
في الجري والمبادلة والقفز العالي وجر الحبل بين الجزارين والتجار أو الطلاب
والآباء مع توزيع جوائز رمزية للفائزين. وفي المساء علي ضوء الرتينة(مصباح مضئ
يعمل بالجاز) تقام المسرحيات والهزليات
وتقديم القصائد والنشاط مفتوح للنساء والرجال علي السواء!!! والمدرسة كلها مقسمة
إلي أربع فرق رياضية أذكر منها فريق التحرير والعلم والجهاد والإستقلال ! وكنت أنا
ضمن لاعبي فريق الجهاد!! ووصلنا النهائي
ضد فريق التحرير ونلنا الكأس. وكانت المكافأة من الأستاذ المشرف عبد الرحمن محمد
محمد صالح من منطقة الشايقية ، أننا شربنا
الشاي في مساء اليوم التالي مع الأساتذة!! وكان ذلك شرف كبير!!وذلك يعبر عن مدي
تقديرنا وإحترامنا لأساتذتنا الإجلاء!!!